تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 197 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 197

197 : تفسير الصفحة رقم 197 من القرآن الكريم

** يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
قال قتادة في قوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} الاَية. قال ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقاً, لهم شر من الحمير. قال: فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله ما يقول محمد لحق ولأنت أشر من الحمار, قال: فسعى بها الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال «ما حملك على الذي قلت ؟» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك, وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب, فأنزل الله الاَية. وقوله تعالى: {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} الاَية, أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله عز وجل أي شاقه وحاربه وخالفه, وكان في حد والله ورسوله في حد {فأن له نار جهنم خالداً فيه} أي مهاناً معذباً, {وذلك الخزي العظيم} أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير.

** يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوَاْ إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ
قال مجاهد: يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا, وهذه الاَية شبيهة بقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}, وقال في هذه الاَية: {قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} أي إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم, كقوله تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ـ إلى قوله ـ ولتعرفنهم في لحن القول} الاَية, ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين.

** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَآئِفَةً بِأَنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
قال أبو معشر المديني: عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة, وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ـ إلى قوله ـ كانوا مجرمين} وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن, فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة, وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} الاَية. وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بنحو من هذا.
وقال ابن إسحاق وقد كان من جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف, ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير, يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال, إرجافاً وترهيباً للمؤمنين فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة, وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على راحلته, فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الاَية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم مكانه, فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
وقال قتادة {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه, فقالوا: يظن هذاأن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات, فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا, فقال {عليّ بهؤلاء النفر} فدعاهم فقال «قلتم كذا وكذا» فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب. وقال عكرمة في تفسير هذه الاَية: كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب, اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره. وقوله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أي بهذا المقال الذي استهزأتم به {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم {بأنهم كانوا مجرمين} أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.

** الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ
يقول تعالى منكراً على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين, ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, كان هؤلاء {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} أي عن الإنفاق في سبيل الله, {نسوا الله} أي نسوا ذكر الله {فنسيهم} أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى: {وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذ} {إن المنافقين هم الفاسقون} أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة, وقوله: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم {خالدين فيه} أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار {هي حسبهم} أي كفايتهم في العذاب {ولعنهم الله} أي طردهم وأبعدهم {ولهم عذاب مقيم}.